نبيل فكري يكتب: لا نفق ولا نور .. داخل مستشفى دمنهور
أمس، قبل المغرب بدقائق، هاتفني أحد أقربائي، يصرخ كي أذهب إليه في المستشفى العام بدمنهور، فقد وقع له حادث ونقلوه إلى هناك .. المطمئن في الأمر أنه هو الذي اتصل .. ذلك يعني أن الأمر محتمل حتى وإن كان صوته ليس على ما يرام، ثم هاتفني ثانية يطلب مني أن أجلب معي «جهازي محلول» من أي صيدلية.
توجهت إلى المستشفى الذي أعرفه جيداً، ولنا معه حكايات وروايات، والحقيقة أنه لم يعد على حاله .. تغير كثيراً .. والحقيقة أيضاً أنه تغير للأسوأ والأسوأ جداً.
لم يعد الدخول إليه كما كان في الماضي، سوره بات كأسوار السجون، وأبوابه متاريس يقف عليها أفراد أمن غالبيتهم لا يشبهوننا، لا سبيل للتفاهم معهم .. يكذبون علي الفور، لأنهم لا يصدقونك على أي حال: يسألونك رايح فين؟ وحين تجيب: لقريبي الذي استنجد بي، يردون بأن كل أهله معه بالداخل، وعبثاً تحاول وتناور وتقسم وتستجدي وتستعين بصديق أو بواسطة، حتى تدخل، فلا تجد أحداً عند قريبك، حتى الممرضات والأطباء لا وجود لهم، إلا ممرضة تضع هاتفها المحمول أسفل طرحتها على الأُذُن، في مكالمة طويلة، يبدو أنها تمتد من أول «الوردية» إلى نهايتها، و«شبح» يظهر ويختفي بالبالطو الأزرق الغامق، وأحدهم حين سألته عن شيء، وكان طبيباً يباشر حالة في ذات غرفة الطواريء، قال لي: لست من هنا، لقد جئت خصيصاً لهذه الحالة.
الأمن مختلط بالناس، وربما عدد أفراد الأمن أكثر من المرضى، أمن لا يشبه أولئك القدامى «الحاج فلان» و«عمك علان» وإنما هم أفراد أمن متربصون بك، متأهبون لأي «خناقة» أو مشكلة، وكم لهم من مشاكل هنا تنتهي في نقطة الشرطة، ثم بترضية لفرد الأمن ومن معه.
قريبي الذي ذهبت إليه، لا زال مضرجاً في دمائه، وظل على حاله حتى غادرته بعد أربع ساعات تقريباً، والحقيقة أنه أجرى أشعات بعد حوالي ثلاث ساعات، طالعها طبيب شاب على سلم الطواريء وهو يدخن سيجارته، وطمأننا.
في غرة الطواريء آلمني طفل صغير لم يتجاوز الثامنة يبكي بجوار أمه ووالده «قليل الحيلة» .. عرفت من والده أن لديه انفجاراً في الزائدة، وأنه في انتظار دوره في العمليات .. حاولت عبثاً مع والد الطفل المصري الأبيّ «العفيف» أن نبحث عن حل آخر خارج المستشفى بدلاً من الانتظار، لكن الأب رفض بإباءٍ لم يداري اليأس وإحساس العجز، وخرجت والولد على حاله، ولا أدري إن كان أجرى العملية الجراحية أم لا.
لست أدري كيف أنهي تلك السطور .. لا أريد أن أكون معول هدم، ولا أبحث عن شيء سوى أن ألفظ تلك الزفرات والنيران من صدري، ولا أدري كل تلك «الطنطنة» عن الصحة أين هي من غرف الطواريء، ولا أريد أن ألقي باللائمة على أحد، لكن المشهد المختزل لديّ، كان أن الجميع «بائسون»، المريض والطبيب والممرض وفرد الأمن .. لا أحد يرضيه حاله، لا المريض المُلقى في طرقات الطواريء، ولا الطبيب الذي لا يكفيه راتبه، ولا الممرضة الغارقة في مشاكلها، ولا حتى «رجل الأمن» الذي ينتظر دوره في رحلة العبث كي يكون بالداخل، وربما ولا الجدران الكالحة والممرات المظلمة في الطريق إلى مستشفى تبدو وكأنها فقط للموت.
عجيب أن يشخِّص الناس المشاكل أكثر من أصحابها فيفسرون زحام الطواريء الذي لم يكن كذلك قبل شركات الأمن الخاصة، وغريب أن نبحث عن أي شيء مضيء فنطفئه أو شجرة نجتثها أو جدار بألوان مريحة، نغيرها إلى أخرى قميئة تسد النفس وتُحزن الخاطر .. أنا لا أدري هل نفعل ذلك عن عمد، أم أننا تردينا «لهُوّة» هي التي تمنحنا كل خياراتنا السوداء؟ .. ولا أدري حتى أين ذلك النفق الذي نبحث عن نور في آخره، أم أن الرحلة كلها ستكون في النفق؟.
أدرك أننا نكابد، وأن المسؤولية كبيرة، والحمل «ثقيل»، لكن العبء الأكبر أحسبه في البشر، في أناس كل مهمتهم أن يسدوا طاقات الأمل والنور .. في أناس لا يدركون أنهم في مستشفى، كل من فيها «مُبتلون» يستحقون الرحمة، وأن يجدوا يداً تمتد إليهم .. «تطبطب» على أكتافهم لا لتمنعهم .. أن يجدوا من يواسيهم لا من يعنفهم .. لا أدري لماذا نبدو الآن وكأننا من أجناس كثيرة .. لا نعرف بعضنا .. نبدو كأننا أعداء .. ربما كُلٌّ يحاسب الآخر على خطيئته، دون أن نعترف بتلك الخطيئة.